الأثر الديني في العمران:
إن العمارة الإنسانية تتأثر بفكر الدين الذي له القوم يدينون،كما أنـها تتأثر بالفكر والثقافة الخاصة التي إليها ينتمون،والتي يكون الدين الذي هم عليه له أثره فيها،بغض النظر عن قوة هذا التأثير وضعفه،ومن هنا فإن العمارة هذه عندهم-سواء ما كان منها بيوتا للسكنى أو دورا للعبادة،أو مدافن للموتى-تستمد طابعها العمراني من ذلك،وهذا واضح في ميراث الحضارات التي سلفت و تركت آثارا تعبِّر عما كانت عليه من ثقافة وفكر،فهذه الحضارة الفرعونية التي عبد أهلها الشمس،أو أجبر بعضهم على عبادة الفرعون،نجد آثار ذلك واضحة في صور الشمس(آمون)وصور الناس معلنين الذل والخضوع للفرعون،كما تظهر آثار الديانة في بناء الأهرامات والمدافن والمعابد التي أقيمت في مصر الفرعونية مثل معبد أبي سنبل ومعبد الكرنك وتل العمارنة؛
كما أن الحضارة الفارسية ظهرت على جدران معابدها صور النار وسدنتـها،كما ظهرت صور الأكاسرة يعلن أتباعهم لهم الخضوع في هيئات شتى باعتبارهم تسري فيهم دماء الآلهة كما ادعوا ودلسوا على أتباعهم،وفي الحضارة الإغريقية نجد العقيدة الوثنية في الصراع بين الآلهة أو بينـها وبين الإنسان أو بين الإنسان والطبيعة من حوله،ماثلة في الأوثان المنحوتة والنقوش البارزة والتي تصور الصراع محتدما والانتقام مستمرا بصورة رهيبة مخيفة،كما أن الحضارة الإسلامية كان للإسلام أثره في صياغة الفكر في إنسانـها وصبغه بصبغتـها،الأمر الذي جعل الفكر ينطلق ويبدع ويخطو خطوات عظيمة في مجال الفن العمراني،فابتكرت الأذهان أنموذجا فريدا في العمارة وفنونـها المتعددة،خصوصا العمارة الدينية حيث تفنن المعماري المسلم في بناء المساجد إضافة إلى تزيين القلاع والحصون والربط والأسبلة والحمامات والأسواق بأنواع النقوش والزخارف،سواء في واجهاتـها الداخلية أو الخارجية أو أروقتـها أو فراغاتـها الداخلية،وظهرت براعة المعماري في تزيين هذه الواجهات بأنواع من المشكوات والكرانيش والصرات واللوحات الجصية "والمداميك الملونة بالأبلق والمشهَّر والمزررات المتداخلة نباتيا وهندسيا والشرافات العلوية المورقة أو المسننة" " ""ذات النقوش النباتية أو الهندسية وتزيين الزوايا بالركنيات والأكتاف،والأعمدة بالتيجان،والمنائر والقباب والمنابر بالنقوش والرسوم،والمحاريب بالمقرنصات،والجدر ببناء العقود على مداخلـها بأنواعها المتعددة ذات العاتق،والبصلية والثلاثية والدائرية والمخموسة والمدببة والمزدوجة والمفصصة والمقرنصة وغيرها،وتزيين أبوابـها الخشبية وتظفيرها بالنقوش الزخرفية والمطعمة،والأسطح ببناء الشرافات حولـها والتي عرف منـها العروسة والورقية والمثلثة والمدببة والبسيطة والمسننة،وكذا بناء الفسقيات" " والاهتمام بشكل هيكلـها ورونقها وجمالـها؛وقد اقتبس الفن الإسلامي من العمارة البيزنطية والساسانية لكنـه لم يكن اقتباسا ساذجا ولا تقليدا حرفيا أعمى،فلقد أضاف المعماري المسلم وعدَّل وطور في هذا الاقتباس وفق ما تمليه عليه تعاليم الإسلام،فلقد "حمل المسلمون معهم قيمهم وقدراتـهم الإبداعية وأضافوا إليها ما ناسبـهم من فنون وحرف الحضارات التي عبرت قافلتـهم بمجتمعاتـها لتمتزج إبداعاتـهم بتراث البيئات دون أية تعارض …بل في توافق متناغم يربط بين هذه البيئات والحضارات المتقاربة أو المتنافرة على حد سواء بخيط رفيع" " "ومما نلحظه في العمارة الإسلامية ذلك التميز الواضح حتى أصبح الفن الإسلامي هذا يعرف عند الغربيين بـ(Arabick) نسبة إلى العرب" " " وقد ظهرت براعة المعماري المسلم في فن الزخرفة الذي يعتبر أجمل الفنون المعمارية في العالم على الإطلاق،وهو كذلك متعدد الجوانب ففيه" استخدمت الأشكال الهندسية المربعة والمثلثة والمستديرة،كما برزت العناصر النباتية في السقوف والجدران،واتخذ المسلمون الخطوط العربية أداة لزخرفة المساجد،واختاروا من القرآن الكريم والحديث الشريف نصوصا معينة ورقموها في المساجد منقوشة بحرف بارز أو مجوف أو مرسومة بالأصبغة الملونة أو بماء الذهب،وأثبتوها في القباب وفوق المحاريب وعلى جوانب الجدران " "
العمران و نظرية النشوء والارتقاء:
كان لنظرية النشوء والارتقاء التي قال بـها "تشارلز دارون"أثرها الكبير في انحراف الفكر الإنساني وضربـه في الأرض على غير هدى،حتى إن علماء غربيين كثيرين تأثروا بذلك فهذا مثلا أرنست ماير (Ernest Mayer) الأستاذ الفخري لكرسي ألكساندر أجاسيس في جامعة هارفارد بإنجلترا وأحد علماء تاريخ الأحياء (البايالوجيا التطورية)يعتبر نظرية دارون حقيقة محضة،وزعم أن معظم أطروحات دارون الخاصة أصبحت مؤكدة،كتلك التي تتعلق بالتحدر المشترك ودرجة التطور ،وبنظريته التوضيحية للانتقاء الطبيعي؛
وقول الجيولوجي (J.W.Dawson) :"التطورية لا تترك أي مجالللخوارق،فالأرض سكانـها كما هم لم يخلقوا كما هم بل تكونوا بالتطور"" "
لقد دلَّس هذا اليهودي بفكره على بعض الناس وأقنع كثيرين منـهم بأن أصل الإنسان حيوان أعجم وأنـه تناسل من سلالة القردة ثم تطور حتى أصبح إنسانا-كما يقول- تبع ذلك بداهة الإقرار عند الناس-أو بالأحرى عند المفكرين الدارونيين-بالتطور في حياة البشر كلـها في مشيها وحركتـها،وفي مأكلها ومشربـها، وفي إقامتـها و سكناها،و لا يقال هذا عن الإنسان في العصور المتقدمة في التاريخ وحسب بل يتعداه إلى عصور متأخرة كذلك كالبيئة العربية التي مر فيها المجتمعا "بالتدرج المنطقي خلال السلم الاجتماعي"كما يقول أحد الدارونيين العرب،والذي يقول كذلك" مر[المجتمع العربي بمفهومه وظروفه الخاصة بكل النظم السابقة بالنظام البدائي ثم القبلي ثم الإقطاعي ثم الاشتراكي،ثم تعدى المرحلة البدائية إلى مجتمع الرق من خلال البيئة الصحراوية…ثم جاء المجتمع الاشتراكي من خلال هذا المجتمع بظهور الإسلام في صحراء الجزيرة العربية" " "!!!
و هذا الذي يهرف به هذا الداروني ليس صحيحا–وإن كان هذا هو الفكر السائد عند كثير من المفكرين من تلامذة المستشرقين-فهو افتراء على الحقيقة ومجافاة للواقع الذي عاشه الإنسان على الأرض؛إننا لا ننكر التطور في حياة البشرية،ولا ندعي أن التطور معدوم في حياة المجتمعات البشرية،لكن نقول كذلك إن هذا التطور لا يتخذ سلما بيانيا نحو الصعود دائما،ولا يبقى سائرا في طريق صعوده إلى مالا نـهاية،فهناك كثيرا ما تطرأ عليه انتكاسات وتعتريه هزات،وهذه سنة الكون في الصعود والهبوط في حياة الحضارات بل في حياة عامة المخلوقات الحية منـها والجامدة؛
نقول إنـه ليس صحيحا هذا المفهوم...مفهوم التطور في حياة البشر حسب هذه النظرة أو هذه النظرية مؤكدين قولنا هذا بأمور عدة منـها:
الأول:إن الرقي والتدرج في سلم الحضارة ليس خاضعا لعامل الزمان، وإن كان عامل المكان أو-ما يعبر عنـه بالبيئة-له أثره الواضح في ذلك، فالحضارة الفرعونية مثلا شيدت وبنت واستخدمت وسائل في حفظ أجساد الموتى،كما استخدمت فنونا هندسية في البناء لا زال الإنسان المتحضر إلى اليوم يبـهره عملـها ويعجب بـها وهو عن عمل مثلـها عاجز، بل لا يستطيع تفسير وتوضيح كثير من الوسائل والطرائق التي ابتكرها الفراعنة في حياتـهم التي عاشوها قبل الحضارة الحديثة بآلاف السنين بغض النظر عن قدرتـه على المجاراة والمحاكاة، وقس على ذلك حضارة المايا التي أتت بعد حضارة الفراعنة،وحضارة الآشوريين والبابليين والصينيين والرومان والفرس وسبأ وحمير وغيرها من الحضارات الضاربة في التاريخ، التي قد تكون متباعدة في أصقاع الأرض الممتدة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا...
إنـها لم تخضع لعامل الزمان وما سمعنا أن هذه الحضارات الذي ذكرنا تطورت من حياة الكهوف والمغارات والحياة البدائية إلى الحضارة والرقي البشري بعد ذلك؛
إن الأمر ليس كما يدَّعون،فحياة الإنسان يتحكم فيها عدد من العوامل التي تجعلـها تتطور وترقى أو تـهمد وتخمل،وأهم هذه العوامل البيئة التي يحياها الإنسان إذ هي صانعة أحاسيسه والمتحكمة في مشاعره والمؤثرة في وجدانـه بما تفرضه عليه من منـهج حياة ونمط تعامل مع ما حوله من حياة وأحياء،فيتفتق فيها ذهنـه عن حيل واختراعات في طريقة تتبع، وأداة تستحدث...إلخ،وكذا تتحكم في حياتـه العقيدة التي يعتقد بـها، والعقل الذي يفكر بـه فكلما كان للعقيدة أثرها الكبير كلما كان الـتأثر بـها بالغا والعكس بالعكس صحيح، وفي مجال العقل نرى أنـه كلما حكم الإنسان عقله أعطاه عقله ما يريد وإذا تركه خمل وخمد ولم يبدع شيئا،وهذا هو السر الحقيقي في تطور الحياة البشرية ورقيها وليس عامل الزمان هو المتحكم في عملية التطور؛
ولعل أقرب مثال على ذلك هو الحضارة الحديثة التي قامت أساسا على دعوة"مارتن لوثر"في فرنسا و"كنابيز"في ألمانيا حين دعيا–بعد فشل الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي-إلى استلـهام العطاء الحيوي في الفكر الإسلامي بدل مجافاتـه،واقتباس العلوم الإسلامية الحياتية ومحاكاتـها بدل محاربتـها،فكان أن نـهضت أوربا مستنيرة بنور المسطور في المخطوطات الإسلامية العربية منـها والأعجمية،في الكيمياء والفيزياء والرياضيات والطب والتشريح والفلك والسياسة والإدارة والفلاحة …بعد أن كانوا الهمج الـهامج وحشيي الطباع والعادات،في الوقت الذي استنام في العرب والمسلمون حتى تجاوزهم الزمن وأصبحوا خلف الركب بعد أم كانوا أمامه " "
الثاني: إن القول بأن الحياة العربية تطورت من الخيمة إلى بناء المساكن،أو الانتقال من حياة الشعر والوبر إلى حياة المدر أمر غير صحيح، إذ إن الحياة التي كان يحياها العربي هي التي فرضت عليه بناء نوع معين من المساكن فالبدوي المتنقل في الصحراء وديدنـه التنقل والارتحال وجد في الخيمة مسكنا يلائم تنقله وارتحاله من مكان إلى مكان طلبا للكلأ،أما من وضعوا عصى الترحال وآنسوا المكث وهم الحضر فقد وجدوا في بناء المدر بغيتـهم، فتحديد نوعية المسكن لم يفرضه التطور الاجتماعي وإنما فرضتـه طبيعة الحياة... حياة البداوة أو الحضارة والذي لا يزال باقيا إلى اليوم شاهدا على تـهافت هذا الادعاء، ووهم قائليه،وأن هذا لقول ما هو إلا ترديد وتكرار لمفاهيم اقتبسوها عن أساتذتـهم الغربيين، الذين بنوا أقوالهم في ذلك على التخمين،لا على اليقين
الثالث:إن هذا الطرح مبني على نظرية التطور والارتقاء التي قال بـها"دارون"وهي التي أخضعت حياة الإنسان لسلم التطور في الخلق والعيش والحركة في الحياة وهي نظرية أبطلـها الواقع قبل أن يبطلـها العلم الحديث وهذا يحتاج إلى عرض وتفصيل ليس هذا محله،وإن كنا سنشير إشارات سريعة بذكر آراء لبعض العلماء الغربيين في نظرية دارون؛
الرابع: إن الحضارات قد تنشأ في أي بيئة من البيئات لا تخلو من أن تكون مقتبسة من غيرها في قليل أوكثير،ولذا فإن الحضارات غالبا ما تكون نتيجة طبيعية لتراكمات من الخبرات ومعطيات حضارية أخرى لأمم سبقتـها في السلم الحضاري، نعم إنـها قد تطور وتبدع على ما سبق من ميراث حضاري، لكنـها لا تنشأ من فراغ البتة، يقول ابن خلدون:" ""وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر فلا بد أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم يأخذون الكثير منـها… فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضا بعض الشيء وكانت للأولى أشد مخالفة ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتـهي إلى المباينة بالجملة"
الخامس:انتقاد الغربيين أنفسهم نظرية دارون...
فهذا لويس باستور(Louis Pasteur) العالم الفرنسي المشهور،رغم إلحاده يقول في محاضرة ألقاها في جامعة السوربون بباريس في 7/4/ 1764م" متسائلا:"هل يمكن للكائنات الحية أن تتولد بدون اللجوء للالتقاء البيولوجي؟"ثم يجيب قائلا:"هذا هو المشكل الأساس الذي يجب حله،فهل تفهمون العلاقة التي تربط بين قضية التوالد الذاتي والمشكلات التي ذكرتـها؟أظن أنه يجب أن نكف عن العبارات الشعرية والتضخم الفكري،ولقد آن الأوان أن يأخذ العلم مجراه الحقيقي"
وهذا جان هنري(Jean Henri)(1823-1915م المختص بعلم الحشرات يهاجم فكرة التحول المفاجي في عالم الأحياء حيث يقول:"إن لكل عصر مميزات خاصة،ويتميز عصرنا هذا بالتحولية،وكانت لدينا فكرة التوالد الذاتي(ابتداء من يوم زايرة باستور 1865)وعندما قمت بدراسة فكرة التحولية تبين لي من خلال التمعن فيها أنـها ليست ثابتة بل لـها سيولة وذوبان"
ويقول لويس فيالتون (Louis Vialletton) المختص في التشريع المقارن للفقريات في كلية الطب بمونبيلي عام 1929م:"تبين لي من خلال الأبحاث والتفكير في كتاب دارون أن هذا الأخير لم يستطع القيام ببرهان مادي أصيل من أجل إثبات فكرته،كما أنه لم يأت بأي شيء جديد يؤكد على صلاحية أفكاره"
ويقول البروفسور بول لوموان(Paul Lemoine) في دائرة المعارف الفرنسية:"بالرغم من كل الظواهر،فإن الإنسان لم يعد واثقا أو بالأحرى لم يعط أي اهتمام لنظرية التطور التي تدل على التسلسل،لأن النقاش البناء هو القاعدة لكل حوار علمي"
ويقول البيو فيزيائي هنري دوفو (Henri Devaux) سنة 1952م :"لقد دلت التجارب أن نظرية التطور ليست في الواقع سوى فكرة تبنتها وما زالت تدافع عنها حفنة من العلماء ،إلا أن هذه النظرية أصبحت منتقدة في الوسط العلمي،أما الذي يثير انتباه الباحث هو الاستقرار الموجود في كثير من أنواع الحيوانات"
وهناك علماء آخرون من علماء الغرب من أمثال موريس فيرني(Maurice Vernet) وإلبرت فاندل(Albert Vandel) وغيرهما انتقدا نظرية دارون اتقادا علميا وبينوا الثغرات التي فيها" "
الملامح البارزة في العمارة الخليجية:
تمهيد:
لقد دخل الإسلام إلى ساحل الخليج وساحل عمان مبكرا،وكان أول من قدم إلى هذه الجهة عمرو ابن العاص-رضي الله عنـه- موفدا من النبي r إلى ابني الجلندي حاكمي عمان،وفي العام الهجري التاسع المعروف بعام الوفود قدم وفد من الأزد من مدينة دبا بقيادة زعيمهم حذيفة بن اليمان الأزدي إلى النبي r في المدينة،فأسلم هو وقومه فأمره النبي r عليهم وأمره بأن يجمع منـهم الزكاة " "ومنذ ذلك التاريخ والمنطقة هذه كلـها تنعم بنور الإسلام؛
وكان للدين الحنيف أثره في حياة الناس،بعد أن تعلموا أحكامه،وفقهوا إرشاده وهديه، فهذب منـهم الأخلاق وعدل منـهم السلوكات وصفَّى منـهم العقول والقلوب، وخلصهم من لوثات الجاهلية وفسادها،وربط أفئدتـهم بالخالق العظيم،ووجه وجوههم إليه،وصهرهم في بوتقة دينـه،مزكيا الأنفس،ومطهرا الأرواح،وبانيا منـهم جيلا ينأى بنفسه عن سفساف الحياة و وهدة الطين،ويعرج بـهم إلى أعلى عليين،فشاع بين الناس العدل والرحمة والمواساة،وأصبح المجتمع لحمة واحدة،الكل سواسية كأسنان المشط،لا فرق فيه بين أبيض وأسود،ولا بين غني وفقير،ولا بين عربي وأعجمي...إنـهم عرفوا معنى الأخوة الحقيقية في ظله،وأنسوا بشرف الانتماء إليه باتِّباع تعاليمه، والالتفاف حول رايتـه، ثم واصلوا نشره بين الخافقين،إنـهم تربوا على مائدتـه فانقدحت هذه التربية الإيمانية تقوى في الأنفس،معالمها سمو أخلاقي في طهر وتزكية وعفة،وسمو روحي في زهد وتسليم ورضا،ظهر هذا في العلاقة التي تقوم بين الناس في أخذ وعطاء وبيع وشراء،كما ظهر في تعاون وتكاتف وتآزر أساسه المرحمة والشفقة والعدل والمساواة؛
لقد ظهر أثر الدين في كل حركة في الحياة،إنـهم أصبحوا كما وصفهم الله–عز وجل في كتابـه" كنتم خير أمة أخرجت للناس…الآية" " "
إن هذا الذي حصل كان أمرا محتَّما جراء انتماء المجتمع إلى الدين العظيم وجعله نبراسا له في حياتـه لا يصدر إلا عن رأيه،ولا يتحرك حركة ولا يسكن سكنة إلا بتوجيهه،ولا يسير في الحياة سيره إلا بتعاليمه،لذا فإنـه وجد جيل على الأرض يستحيل أن يوجد-في أي أمة من الأمم البشرية على رقعة أرضها المترامية-جيل مثله،إنه جيل فريد على هذه الحياة...جيل ترسخ فيه معنى الربوبية والألوهية في أنقى صورها،فأعلن الحاكمية لله وحده،لا ينازعه فيها أحد من المخلوقين،لا في فكر يتبع،ولا في دستور يسن،وقانون يوضع...جيل عاش على الحياة هاديا مهديا،ولاؤه لدينه،وهدفه رفع رايته،وسعيه في الحياة سعي راغب عن الدنيا رغم إتيانـها إليه،فهو له غاية يسعى إليها ومنية يتمناها ليست هي هذه الدنيا الفانية،وإنما هي الدار الآخرة؛
لقد تحقق المجتمع الصالح أو المجتمع المثالي بحق…المجتمع المثالي في ارتباطه وفلسفتـه وتفكيره ووعيه و إدراكه…المثالي في إشراقه وأشواقه وسموه البشري…المثالي في رقيه و تحضره ومدنيتـه،أو ما عبر عنـه الفلاسفة بـ"المدينة الفاضلة"… تلك المدينة التي طالما كان يحلم بـها الحكماء والفلاسفة والمفكرون من لدن سقراط وأفلاطون مؤملين تحقيقها،ولكنـهم لم يصلوا إليها،ولن يصل إليها من بعدهم،فإنـهم إنما يضربون في بيداء، ويخبطون في الحياة خبط عشواء،ويتيهون في ضلال مبين؛
إن لم يكن من ضـياء الوحـي بارقـة تـهدي القول فقد ضلت بـها السبلُ
كـتائه ســار في بيـداء طـوَّقَـهُ جيشُ الظـلام فـلا طَـوْلٌ ولا حِوَلُ
أنىَّ لَـه يبلـغ المـأمـولَ ذلـك أو إلى مـدى غايـة في دربه يصلُ" "
إنـه لا يمكن للعقول –مهما أوتيت من حكمة، ومهما بلغت من رقي –أن تـهتدي بنفسها إلى سواء السبيل، إذ لا بد لـها من دليل يرشدها في هذه الحياة، ونذير يوقظها من سباتـها العميق، وإشراقة نور تبصرها بالحق، ومن هنا فإننا نجد الفلاسفة والمفكرين حتى في بلاد الغرب من أمثال (أوغست كونت) يقرر هذه الحقيقة ، فلقد جاء بنظرية مؤداها عدم الاعتماد في تقرير الحقائق على العقل وحده، لأنـه كثيرا ما يضل في الحكم إذ لا بد من الاعتماد على العقل والحس معا " " ؛
وهذا الدليل لا يكون إلا في الدين الحق الذي أنزله الله على رسوله محمد rهدى للناس، إنـه دين الإسلام الذي كان دين جميع النبيين من قبله" إن الدين عند الله الإسلام"" "
إن دين الإسلام هو الذي يملك قوة التأثير والتغيير في العقل البشري،وهو الذي يفعل فعل السحر في الأفئدة،فهو يستطيع أن يحول الجبار القاسي إلى رجل رحيم ودود،والفاجر العابث إلى متبتل أواب،والمتعالي المغرور إلى هين لين موطأ الأكناف،والمندفع الأهوج إلى رجل عقلاني يقدر العواقب ويزن الأمور،والغافل السادر في غلوائه إلى مفكر متدبر،وباختصار إنـه يربطه بالسماء برباط وشيج،ويضيء قلبـه بنورها؛
ويوم أن استولى هذا الدين على العقول فقبلتـه،وعلى الأرواح فعشقتـه،أحدث فيها انقلابا فكريا وأخلاقيا وسلوكيا،قضى فيه بين الناس على كل مظاهر الجاهلية وآفاتـها، فأصبح الناس أناسا غير الناس،واصطبغت الحياة عندهم …كل الحياة بمظاهره…في العلاقة مع الخالق عبادة وتبتلا واستسلاما،وفي العلاقة مع المخلوقين تعاملا أخلاقيا رفيعا،وسلوكا فاضلا حميدا،لذا فقد اصطبغت الحياة بالنور الرباني الذي ملأ الوجود سناه وجمل الخافقين بـهاه،فعاش الناس سعادة الدنيا،وأمنوا فيها من الجور والظلم وضياع الحقوق،كما أمنوا شر الفساد والانحراف عن سنن الرشاد؛
وبما أن الإسلام دين الستر-وهو أحد أعظم مطالبـه الشرعية–فإنـه طلب من أتباعه ستر كل ما فيه خصوصية للفرد،تلك الخصوصية التي لا ينبغي للآخرين الاطلاع عليها،وهو ينـهى أشد النـهي عن تتبع العورات وجاء التـهديد والوعيد الشديد من نبي الأمة في ذلك ، قال r" يا معشر من آمن لسانـه ولم يدخل الإيمان قلبـه لا تتبعوا عورات المسلمين فإنـه من تتبع عورة امرئ مسلم يوشك الله أن يفضحه ولو في عقر داره" " "
والستر من أحد أماكنـه المعتبرة المنـزل،فهو الذي يطرح فيه صاحبـه عنـه حال التكلف،ويأخذ فيه أهل المنـزل رجالا ونساء حريتـهم في التخفف من الهندام،لذا كان المنـزل محل عناية من الشارع الحكيم،حيث حرم دخول المنازل إلا بإذن أصحابـها قال تعالى:"يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلـها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون.فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم،وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم" " "
ومن هنا تتحدد علاقة السكن بالدين… إذ إنـه حين ينشئه الناس مقرا للراحة والإقامة فإنـه يصطبغ بالمفاهيم التي أتى بـها الدين،و يبنى على الأسس التي بنى الدين أتباعه عليها
حبيبتي وان اردتي المزيد ادخلي على موقع بيت المعمارين العرب