الإنسان و البيئة :
تطورت فكرة الجغرافيا الرئيسية التى تتمحور حول دراسة علاقة الإنسان مع البيئة عبر تاريخ طويل وتمخضت عنها مناقشات وحوارات مطولة عن موقف الإنسان فيما يتعلق بالطبيعة ،وأثيرت عدة تساؤلات يمكن تلخيصها فى الآتى :
أولاً :هل الإنسان جزء من الطبيعة أم منفصل عنها ؟
ثانياً :إلى أى مدى يمتد تأثير البيئة على الإنسان !
من العصور القديمة وحتى الآن سيطرت فكرة فحواها أن الإنسان هو نتاج للبيئة . و فى خلال القرن التاسع عشر جاءت نظرية دارون عن التطور والارتقاء فى العلوم البيولوجية لتوضح أن الحياة تطورت نتيجة أفعال منتقاه من القوى الطبيعية و هو ما يعرف بمفهوم الإنتخاب الطبيعى الذى يؤكد عملياً على وضع الإنسان كمخلوق يتكيف مع بيئته المحيطة .
و فى نفس الوقت يتضح ذلك فى دراسة العلوم الاجتماعية حيث تتأثر مظاهر السلوك البشرى مثل معدلات الزواج فى المملكة المتحدة على سبيل المثال بأسعار القمح والنتيجة تبرهن على أن الإنسان ليس حر ولكنه محكوم بقوانين اقتصادية وطبيعية ، مما جعل الكثير من الجغرافيين يركزون الاهتمام فى دراستهم على تأثير البيئة الطبيعية على الإنسان الذى يعتبر مخلوق سلبى تتحكم فيه القوى الطبيعية ،
وهكذا تنحصر مهمة الجغرافيين فى دراسة تحديد وصياغة القواعد والقوانين العلمية التى تحكم العلاقة بين الإنسان والبيئة ، هذا المنهج المعروف بمنهج الحتمية Determinism الذى يرى أنصاره أنه إذا كانت الحالات أ،ب موجودة وعليه فإن الحالة جـ ستكون هى النتيجة،وقد صيغت القوانين المؤثرة لهذا المنهج لتفسير توزيع ونشاط الإنسان ، فطبقاً لإيلين سمبل E . C. Semple "حيث يوجد المناخ الإستوائى الحار الرطب فإنه يشجع على نمو الغابات الكثيفة التى تصبح مأوى للحيوانات وتثمر تلك الغابات أنواع وفيرة من الفاكهة وبالتالى فإنها تطيل من أمد مرحلة الصيد وتعوق تقدم الزراعة كنشاط بشرى " .
و مع ذلك واجهت المدرسة الحتمية عدة انتقادات لسببين رئيسيين :
الأول : من الواضح أن البيئات الطبيعية المتشابهة لا تنتج نفس الإستجابات فحضارات البحر المتوسط مثل الحضارتين اليونانية والرومانية لم يظهر مثلها فى مناطق أخرى من العالم تتمتع بمناخ البحر المتوسط مثلما الحال فى أستراليا وجنوب أفريقيا وشيلى وكاليفورنيا فى الولايات المتحدة الأمريكية ،
علاوة على ذلك فإن الإنسان يمكن أن يستجيب بنفس الطريقة لبيئات مختلفة يبدو فيها التشابه ذو أهمية جديرة بالاعتبار مثلما الحال بين مراكز العمران فى أوروبا والبيئات المتنوعة فى أمريكا الشمالية .
الثانى : رغم تأثير البيئة على الإنسان فإن الإنسان أيضاً يؤثر على البيئة ، فعلاقة السبب – النتيجة التى تراها المدرسة الحتمية تعتبر بسيطة جداً لتفسير ذلك وعليه فإن فكرة تأثر الإنسان بالطبيعة رُفضت ، وأكد جغرافيون آخرون على حقيقة أن الإنسان حر ليختار أسلوب حياته ، وبرغم ذلك فإن هذا الاختيار ينبغى أن يتم فى حدود وُضعت بواسطة الطبيعة ولكن اتساع هذه الحدود بدرجة كافية تعطى الإنسان مجالاً أوسع للاختيار .هذا المنهج الذى يركز إلى حد كبير على الإنسان أكثر من الطبيعة ويؤكد على أن الإنسان يمثل قوة إيجابية وليست سلبية التأثير فوق سطح الأرض عرف بمنهج الإمكانية Possibilism وفى الواقع فإن التوازن بين حرية الإنسان وسيطرة الطبيعة يختلف من مكان لآخر و من وقت لآخر وحدود الإمكانية و الحتمية ينبغى أن تتغير بواسطة مقياس مرن يتفاعل فيه الإنسان و الطبيعة مع بعضهما البعض فى نظام معقد جداً .
ويمكن دراسة تأثير الإنسان على البيئة أو تأثره بها كنموذج أو نظام تفاعل وبالتالى فإن مهمة الجغرافى تتلخص فى تحديد الأجزاء الرئيسية لهذا النظام وقياس الأهمية النسبية له ، وتصبح العناصر أو المكونات الأساسية لهذا النظام أو النموذج هى : الإنسان والبيئة والعلاقات بينهما.
تأثير البيئة على الإنسان :
يعتنق معظم الجغرافيون فى الوقت الحاضر أفكار المدرسة الإمكانية رغم أن بعض الموضوعات التمهيدية مازالت تتقيد بمنهج وأفكار المدرسة الحتمية ، وليس معنى ذلك القول بأن البيئة لا تلعب دوراً ذو أهمية فهى تمثل المحيط الخارجى الذى يتحرك فيه الإنسان ويقدم له العديد من الفرص والتقييدات . بيد أنه ليس من السهل أن نقيس تأثير الطبيعة على الإنسان بسبب تعقد العلاقات فى النموذج التفاعلى السالف الذكر .
فالعدد من المتزايد من السكان الذين يعيشون فى بيئات المدن المصطنعة علاقتهم بالبيئة الطبيعية ليست مباشرة ورغم ذلك فهؤلاء القاطنين فى تلك البيئة المبنية يعتمدون على الأرض من أجل الغذاء والمواد الخام .
العامل البيئى الذى يؤثر بصورة مباشرة على كل السكان يتمثل فى المناخ فهو السبب الرئيسى للإختلاف الجنسى بين بنى البشر من حيث شكل وحجم ولون الجلد ، ولكن ليس من الواضح كيف يؤثر المناخ على النشاط البشرى رغم مرور قرون من إعمال الفكر والتأمل فى تأثيراته على الشخصية والسلوك الإنسانى .
اعتقد أرسطو أن الناس الذين يعيشون فى مناطق المناخ البارد يكونون أكثر شجاعة ولكنهم ضعفاء برغم ذلك بينما الناس الذين يعيشون فى مناطق المناخ الدافئ يكونون أكثر عمقاً فى التفكير ولكن بدون نشاط أو حيوية .
وفى العصور الوسطى يقارن المؤرخ العربى إبن خلدون بين بلادة الحس ونقص الحيوية فى سكان مناطق المناخ البارد والطبيعة الإنفعالية والاستعداد للاستسلام لمشيئة الطبيعة التى يتميز بها سكان المناطق الدافئة .
و هكذا ظلت وجهتى نظر أرسطو وابن خلدون تشتركان عبر التاريخ فى رؤية النطاقات المناخية تتوزع بين هذين النوعين والتى عادة ما تمثل الأماكن التى نشأ فيها كلاهما وكتبا فيها آرائهما. و علاوة على ذلك فإن الكائنات الإنسانية الأكثر
مثالية والتى تظهر فى النطاق المثالى مناخياً طبقاً لرأى هنتنجتون E.Huntington وماركهام S.F. Markham تعتبر أكثر نشاطاً وحيوية ، فنطاقات المناخ المعتدل البارد والتى تتعرض لنشاط إعصارى متكرر وتغيرات متلاحقة فى الطقس مثل غرب أوروبا وشرق أمريكا الشمالية واليابان على حسب رأيهما تثير النشاط العقلى عند الأفراد والأمم لقيادة العالم . هذا النوع من النتائج يكون صعب جداً لإثباته بالدليل لأن المناخ يمثل واحداً فقط من عدة عوامل تؤثر على النشاط البشرى و لكنه لا يؤثر فى السلوك الإنسانى ، رغم ما يؤكده تشاندلر R .Chandler فحينما تهب رياح سانتاآناSanta Ana فى لوس أنجلوس ، هذه الرياح الحارة الجافة تثير الزوجات الصغيرات المستضعفات لاختيار الحواف القاطعة للسكاكين على رقاب أزواجهن .
و هناك أدلة إحصائية توضح الارتباط بين الجريمة وأحوال الطقس وأن أنواع معينة من المناخ تكون مفيدة للذين يعانون من بعض الأمراض .
و قد ظهرت عدة محاولات لقياس مدى ملاءمة البيئة للنشاط البشرى ، وكذلك لتحديد وسائل الراحة وعدم الراحة ونطاقات الخطر
و بالطبع فإن الإنسان يستطيع تعديل هذه التأثيرات بتهيئة مناخه الخاص و قد تم له ذلك لمدة طويلة جداً ، فالإنسان إستخدم النار لأكثر من نصف مليون سنة و المجتمعات المتقدمة أنظمة التدفئة المركزية المعقدة جداً و أنظمة تكييف الهواء ، غير أنها جميعاً يتم استخدامها على مقياس صغير داخل المنازل و المؤسسات و بالتالى فإن محاولات تعديل أثر المناخ على نطاق واسع تعتبر محدودة إلى حد كبير وبناء عليه يبقى المناخ ذو تأثير فعال على النشاط البشرى . ورغم التقدم التكنولوجى فمازال الإنسان فى النهاية معتمداً على البيئة الطبيعية فى الحصول على احتياجاته المادية وفى تحقيق رغباته ، و بالطبع فإن طبيعة هذا الاعتماد تختلف من مجتمع لآخر ، فمن المجتمعات البدائية حيث الجفاف الذى يسبب المجاعة إلى المجتمعات المتقدمة حيث يبدو الإرتباط بالبيئة أكثر تعقيداً ، و لكن المصدر الأخير لكل الغذاء و المواد الخام
يبقى هو نفسه لكل الجماعات البشرية . ولعل أيضاً مما يؤكد تأثير البيئة هو أن أكثر القوى العاملة فى العالم تعمل فى الحرف الأولية مثل الزراعة و الرعى و الصيد و التعدين .
و لا تؤثر البيئة على الإنسان فقط فى نطاق وفرة الموارد الطبيعية ولكن أيضاً من خلال حقيقية أن واحدة من أكثر خصائصها وهى التغير المستمر . ويمكننا تمييز ثلاث أنواع رئيسية من التغير تؤثر على الإنسان بطرق مختلفة تماماً تتضمن كل التأثيرات الإيجابية والسلبية على النشاط البشرى وهى :-
أولاً :-التغير العادى طويل الأمد مثل إطماء السواحل ومجارى الأنهار ، فالطمى يلعب دوررئيسى فى المحافظة على خصوبة تربة السهول الفيضية من أجل الزراعة ولكنه أيضاً يعجل من تدهور موانئ ذات أهمية مثلما الحال فى ميناء بريجس فى بلجيكا و موانئ سنكى فى جنوب إنجلترا .
ثانياً : التغير العادى قصير الأمد وهو المحتمل التغير الأكثر أهمية بين أنواع التغيرات المختلفة ويتمثل فى تعاقب فصول السنة الذى ينظم الزراعة إلى حد كبير وكذلك الهجرة السنوية للحيوانات والأسماك والتى تتحكم بدورها فى معيشة الصيادين ، وأحياناً يتداعى مثل هذا الإيقاع الفصلى و يحدث مواسم حصاد غير مجدية نتيجة أحوال من الطقس غير العادى و لكن التغير يمكن بسهولة أن يكون مصاحب لكارثة فعلى سبيل المثال إخفاق الرياح الموسمية فى الهبوب غالباً ما يسبب صعوبة شديدة فى الهند ومع ذلك فربما يكون النوع الثالث من التغير مختلفاً كما يلى .
ثالثاً : التغير السريع الذى لا يمكن التنبؤ به مثل الزلازل والأعاصير والفيضانات التى تؤثر بصورة واضحة على الإنسان ، فالفيضانات فى وادى الميسيسبى فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى برزبين فى استراليا فى سنة 1974م ، وإجلاء سكان جزيرة هيماى بالقرب من أيسلندا نتيجة ثورانات بركان سنة 1973م ، كلها توضح إلى أى مدى يمكن للتغيرات الطبيعية الفجائية أن تقدم مصادر جدية بالنسبة للإنسان .
و برغم هذه المعوقات فإن الإنسان يحاول بسط سيطرته على كل أجزاء الأرض تقريباً وتاريخه يمثل واحداً من قدراته المتزايدة لاستخدام البيئة لصالحه ومع ذلك لا يمكن لهذه السيطرة أن تكتمل بسبب العوائق القوية المفروضة بواسطة الطبيعة ، ولكن الجغرافيون يحاولون على نحو متزايد توجيه
الاهتمام إلى دراسة تأثير الإنسان على البيئة فى محاولة لفهم كيفية حدوث ذلك بالإضافة إلى التعرف على نتائجه واقتراح أفضل الوسائل لإدارة مثل هذه التأثير وتوجيهه .